وأنا في أرض الغربة كثيرا ما تخطر على بالي صورة أبو فروع , فأتخيل القمر متربعا في سمائها والنيل الأزرق يجري في بطحائها , ولك أن تتصور عزيزي القارئ لوحة المياه عندما تتسلط عليها اشعة القمر , واذكر شجيرات النخيل المطلة على النيل وهي تتسامى الى السماء وعلى هامتها ذلك الطلع النضيد , وفي ايام الخريف وعندما تتزين ساحة الحلة بذلك الثوب الاخضر القشيب وتمتلئ خيران الغابة بتلك المياه العذبة وأنت تسير في شوارع القرية وتتنسم دعاش المطر وهمبريب الخريف وترى اولئك الصغار و تلك النسوة وهم يرعون اغنامهم ويتأملون ضروعها في بهجة وحبور .
نعم , هذه هي أبو فروع التي عرفناها ونحن صغار لا نعرف سوى الحنبك أو البلح فاكهة ونحن نجري ونتسابق إلى "البقر" بضم الباء بحثا عن التبش أو الموليته .
ونحن نتجول في شجر يوسف من أجل الصمغ وبعد نهاية الدوام المدرسي نرسل قبل الأمهات لإحضار الوقود للكسرة وهي الوجبة الرئيسية والوحيدة ثلاث مرات في اليوم وعندما نجهز الحطب وفجأة تسمع "با شري جاءكم " فتولي هاربا تاركا فرارك وما قطعت من حطب وغالبا ما تمضي تلك العصرية في إخراج الشوك والضريسة .
تلك كانت طفولتنا وهي بحق أرق من الزهور ومن اغاريد الطيور وألذ من سحر الصبا في بسمة الطفل الصغير ولا ننسى فاكهة مشروع الجزيرة أو "الحواشات " كما يحلو للمزارعين تسميتها , ففي موسم الدرت وعندما يحين وقت "القنقر" و"القعور" وأحيانا "العنكوليب" فهو قمة السعادة لأهل القرية .
عزيزي القارئ وأنا أسطر هذه الكلمات بقلمي البسيط المتواضع نمى إلى مخيلتي أن بعض الشباب من مواليد الإنقاذ ربما يعتقدون أن بعض المفردات الواردة في هذه المقالة كلمات أعجمية أو غير عربية , فهل تتفق معهم يا من كنت في استقبال أبو القاسم هاشم عندما زار أبو فروع ويا من أدركت الألمان وهم يرسمون شارع مدني الخرطوم , ويا من كنت تركب مع ود الماحي وود جبران إلى الحصاحيصا مارا ببُقرة بسيوني إلى الدبة ثم تجلس في مطعم السر وتنادي الجرسون واحد فول وبعد قليل وبرأس مرفوع "جيب وصلة "
وكنا وفي الغالب نذهب إلى دكان حسن عثمان ويأتي الأب ليقطع لك ضراعين أو ثلاثة أضرع من البوبلين بالضاد وليس بالذال ثم تذهب إلى خلف الله الترزي أو با بكر ود نعيم ليخيط لك جلبابا تفاخر به أندادك يوم العيد طبعا بدون "فشة" ما رأيك في هذه البساطة , واروع ما في أهلي بساطتهم ولكن معدنهم أغلى من الذهب .
يا قريني ونديدي أجمل ما في أبو فروع ذلك الصباح الخريفي الجميل وعندما تكون الأمطار قد هطلت ليلا ونأتي في الصباح إلى خور حنين فنجلس بعراقي الدمورية القصير والوحيد لنلعب بالقبب حتى منتصف النهار وحيث أن التربية كانت جماعية فإذا جاء من ينادي :
يا ولد ألفيت الجميع يهرعون إلى مصدر الصوت الذي ينادي فربما تكون إحدى نساء الحي تريد أن ترسلك إلى الدكان أو الجزارة أو رجل يرسلك في مهمة فتذهب طائعا راضيا حيث وجّهك طال المشوار او قصر ,, هكذا كانت ابو فروع ,,, الحياة فيها جماعية والموت جماعي فأنت تجد الصغار والكبار الرجال والنساء في بيت المناسبة وعند الموت تجد كل الرجال والشبان في المقابر لا يتخلف إلا مريض , يربطهم حبل ويقطعهم سيف .
ومن مظاهر الجماعية خروج الناس بل كل الناس في الصباح الباكر إلى الحقول وفي الصيف كل الشبان يخرجون إلى العمل في المحالج سيرا على الأقدام أيام لم يكن هنالك مصنع او سوق شعبي ولا ترى شيئا سوى شجرة النص .
وفي الختام لكأني أسمع أبو فروع تغني : اجوا عائدين إن شاء الله عائدين ,, يا الله . ونجيبها نحن بصوت واحد الخير يا عشايا ودينا لأهلنا .
hgodv dh uahdh ,]dkh gHigkh
المواضيع المتشابهه
الخير يا عشايا ودينا لأهلنا
العرض الشجري