كلما جلست أستمع لأحدي أغنيات الحقيبة أظل أطلق العنان لفرس الخيال ليعدو عبر ذلك الزمن المؤتلق في حقبة العشرينات والثلاثينات حتى بدايات الخمسين من القرن المنصرم . وأظل أسائل نفسي كيف كان حال أولئك الناس الذين اثروا حياتنا الفنية والأدبية , وملأوا وجداننا وغمروا أرواحنا بهذا الكم الهائل وهذه الدرر النفيسة من الأغنيات ذات المعاني الراقية والقيم الجمالية العالية . وكم تزداد دهشتي ويتملكني الإعجاب بتلك المفردات ذات المضامين الحسية البعيدة عن كل شبق جنسي أو مادية بغيضة , ولا أظن أنني أضيف شيئا أو أسجل حدثا بخوضي في هذا الفن العجيب لعلمي التام أن ا لكثيرين ممن لهم اليد الطولي والفكر المتمرس والمتخصص قد أسهبوا وأجادوا , ولم يتركوا شاردة أو واردة في هذا المضمار الذي ( يقطع نفس خيل القصيد) إلا وتطرقوا إليه باحثين ومنقبين في بوادي وقمم ومتاهات هذا الإبداع .. غائصين في بحارة العميقة بحثا عن مكنونات درره وروائع لآلئه .. وبالطبع فان محاولتي هذه لا تعدو أن تكون مجرد فكرة وخاطرة انبعثت من دواخلي وأنا أتجول عبر هذه الحدائق الوارفة أستمع لشدو البلابل وهي تغني وتصدح في مواقف العواطف والسمو الوجداني تارة , ثم لا نلبث أن نسمع نشيدا يخرج كالزئير في المواقف الوطنية تارة أخري , فقد كان شعراء الحقيبة رغم محدوديتهم
"الأكاديمية" إلا أنهم استطاعوا أن يمتلكوا ناصية الكلمة , وصياغة الأحاسيس والشعور فكانت الكلمة لاتخرج الارصدا لخلجات النفس بعد وضعها في الإطار الذي يرضي ذوق الشاعر وفنه فكانت "عازة الخليل" واحدة من الأغنيات الوطنية إن لم تكن الأولي التي دثرها الشاعر بثوب الحبيبة , وهي من الأغنيات التي ألهبت مشاعر السودانيين فترة الاستعمار وكان لها فعل السحر في استنباط الهمم لإجلاء المستعمر . وهكذا فإن أغاني الحقيبة لم تكن فقط دغدغة لمشاعر فتيات ذلك العصر اللآتي لم تكن لديهن الفرصة متاحة للخروج وبالتالي إمكان مشاهدتهن من قبل الشباب إلا فيما ندر أو في مناسبات الأفراح , فبجانب هذا المنحي الإنساني كانت أغنية الحقيبة تدعو الفتاة للفواق من نومها وترك الكسل والدعة والخمول والإقبال علي الحياة والعلم والعمل :
عازة قومي كفاك نومك وكفاك دلال يومك
أنتي ياالكبرتــــوك البنات فاتـــوك
في القطـــار الفـــات
ثم ندلف عبر هذه الروائع إلي حديقة الاستعارات البديعة عند شعراء الحقيبة من الشعر العربي القديم, ما يدل علي أنهم أطلقوا أشرعتهم في بحاره اللامتناهية فنجد "أبو صلاح " يترنم :
صدرك مروحة متبوره خصرك ناحل
بالقيراط مشيك مثل السحاب الراحل
ولا أجد كلمات اقرب تشبيها ومعني لكلمات"ابوصلاح " سوي قول الشاعر العربي :
كأن مشيتها من بيت جارتها مرّ السحاب لاريث ولا عجل
ومرة أخري ونحن مازلنا نتنقل عبر هذه الحديقة الزاهية الباهية نستنشق عبير هذه البدائع لنقف أمام واحدة من الأعاجيب والمقدرات الفائقة في الصنعة الساخرة وإظهار الملكة في تحد لا يحيطه التكبر ولا يدثره الغرور بقدر ماهو إظهار للمقدرة اللغوية عند الشاعر, وكيف لا تتملكنا الدهشة مع "ابوصلاح" وهو يستخدم حرفا واحدا فقط ما يقارب العشرين مرة مثل هذه "العين" المتكررة في مربعاته :
عملت بالعند عادت علي معلومة عدت علي الصوابع كم تعد عـــزوله
عضعضت العنب بالمعدنة المعسوله عجزت من علاجي وبي عذابي عجوله
ولعل أكثر مايزيدني عجبا قول البعض واتهامهم لمعظم شعراء الحقيبة أنهم مبتذلين في أوصافهم الحسية وهم يتنقلون بكلماتهم عبر جسد المرأة من عضو إلي آخر, وهم أي أولئك "البعض" يعزون قولهم بأنه نتاج طبيعي أفرزته تلك الحقبةحيث كانت رؤية الفتاة أمرا صعب المنال إلا في مواقف قليلة ونادرة كما أسلفت.. غير أن الحقيقة الغائبة عن أولئك النفر هي أن الفتاة لم تكن بذلك الابتذال والانحلال والتفسخ الذي يسمح للشاعر أن يتلمس بعينيه في جسدها كيفما شاء ومتي ما شاء. وفي المقابل كان شعراء الحقيبة يضعون المحبوب موضع النجوم بين السماك الأعزل .
( في الخيال أحيا لو تراني والنجوم من وصالك أسهل)
( شوف العين قالت ده لالا صدت من تيها ودلالـــه )
( في النجوم مجده يبنالو بين سماك أعزل حظي مانالو)
ومع ذلك فقد كان هؤلاء الشعراء بشرا وليسوا ملائكة يمشون علي الأرض وبالتالي فهم معرضون للخطأ و"للخطيئة" فهم ببشريتهم هذه كانوا يتلمسون مواضع الجمال ويترجمون أحاسيسهم وانفعالاتهم بكلمات لاتخرج من إطار بشريتهم في غير ما مس أو هتك بعرض , بل لاعجب أن نسمع لأغنية من أغاني الحقيبة يذكر فيها الشاعر اسم المحبوب إلا رمزا , وذلك صونا لكرامتها وعفتها وحفظا لها من حداد الالسنة فتري بعض شعراء الحقيبة قد ابتكر مصطلحا فنيا نادرا يعرفونه فيما بينهم فيسمون المحبوب "بالرقم" بدل الاستدلال بالأحرف التي قد تكشف اسم المحبوب فيقول احدهم :
ماله "سبعة" أم صدرا علا في قليبي النار مشعلا
وفي مقطع آخر نجده يقول :
"سبعة" أم لونا غامق الخضار فاقت السندس لمعة ونضار
وليس هناك أبلغ ردا علي هؤلاء الذين يتهمون شعراء الحقيبة بالسقوط والإسفاف من رد أحد فرسانها وهو الشاعر الكبير " محمد ود الرضي" بقوله :
الحقيبة مابتمدح دعارة
لا ولا المحبة المستعـــــاره
أو ألاغاني المفضوح شعـــاره
مادخــل خايـن جــــداره
المحــامد جــــــوه داره
وباذلـه جهدهـا في الصــداره
وتأكيدا لهذا المبدأ السامي , ونفيا لكل محاولات المساس بهذا الفن الرفيع لا يألو الشاعر جهدا في إثبات هذا المبدأ فنجده يقول :
إن رضا المحبــوب طربنــا
وإن تمنع ماغضبنــــــا
وإن طلب حالا أجبنــــــا
هذا يامــولاي دربنـــــا
نحن نفخــر بي كرمنـــا
بي عفافنـا وبي حرمنــــا
نحن مابنقـول فعلنــــــا
سـل وســل أشعارنا عنّــا
ثم لنتلمس معا هذا الحوار الرائع , والتذكير من المحبوب علي لسان الشاعر للعاشق الوله وهو يطلب ويستجدي ولو نظرة تطفيء نار وجده , وهي تمتنع " ولا أقول تتمنع" عن ذلك في عفة ممزوجة بكامل الأدب , قائلة أنها لاتقبل حمدا أو ثناءا ينقلب فيه المكروه المحدود بالنظرة الواحدة إلي الحرام المطلق بالتمادي في النظر , ويذلك يعطي الشاعر درسا مجانيا لكل عاشق دنف
في العذرية وصفاء النفس .
قت ليت الأيام بندن تبقي لانت وسحابه دندن
بلماك النيران يخمدن ليك روحي وأجزيك حمدا
قال لي كــــيف تستوجب ليّ حمــــدا
من تعاطي المكروه عمدا غير شك يتعاطى الحــرام
*******************
ولم تكن أغنية الحقيبة تقتصر علي الأغنيات العاطفية أو الوطنية فقط وإنما كانت كلمة شاملة بكل ما تحمله من معان .. فقد تطرقوا بفنهم لشتي المجالات , فغنوا للطبيعة والجمال , وتنادوا جميعهم بغرس القيم والفضائل , ونبذ الخصومة علي مستوي الأفراد والجماعات وتنادوا بفضيلة الكرم والشهامة والمروءة , مستلهمين كل ذلك ممّا نهلوه من منابع القرآن الكريم أولا , وماقرأوه من عيون الشعر العربي القديم .. الذي زودهم بذخيرة فنية رائعة , ومفردات لغوية بديعة .ولا غرو إن قلت أن الصفات الجليلة العظيمة التي يتصف بها أبناء السودان بكل أشكالهم وعرقياتهم من كرم وشهامة ومروءة كانت ازدواجا ما بين التربية الدينية والروحية والأسرية الفريدة ,وبين كلمة الحقيبة التي كان لها دورا ساميا في تهذيب روح الإنسان السوداني وامتلائه بالحياء والعفة دون أن ينقص ذلك من اعتزازه وعزته ..
إذا فأن هذا الذي ذكرته في هذه الخاطرة لا يعدو إلا أن يكون قطرة من محيط (حقيقة الفن في حقيبة الفن) وكما ذكرت في البداية فأنني مهما حاولت الإبحار في هذا الخضم فإن مراكبي ستظل أبدا قريبة من شواطيء "حقيبة الفن" فربما يأتي يوم يحمل فيه أحد شباب المستقبل مفتاح" الحقيقة" ويبهرنا بما خفي عنّا داخل الحقيبة أو لم تدركه عقولنا المتواضعة .
وفي الختام , كلمة أهمس بها في أذن الفنانين الشباب عامة , والجادين منهم علي وجه الخصوص الذين يحملون الفن قضية لغايات نبيلة وأهداف سامية , أقول لهم بكل التواضع انهلوا من فن الحقيبة .. فأنه بحر لا ينضب و ............
محمود صلاح