![]() |
اللهم زهدنا في الدنيا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله, صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه, ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين… أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً). أمة الإسلام: الكثير منَّا إذا أراد أنْ يبنيَ بيتاً, بدأ يسأل عن أحسن التصاميم, بل رُبَّمَا دخل وتجوَّل في بيوت الآخرين, لكي يأخذَ أحسن ما عندهم. فدعونا -معاشر الْمُسلمين- نتجوَّلُ هذه الدقائقَ في أحد البيوت, وسنختارُ بيتَ أعظمِ العظماء, وأتقى الأتقياء, وخاتَمِ الأنبياء, إنه بيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, الذي أنقذ البشرية, وقاد الأمة إلى السعادة الأبدية, الذي يزيد أتباعه هذا اليوم: على المليار والنصف. فكيف كان يعيش صلوات الله وسلامه عليه, وكيف كان طعامه وشرابه ومنامه, وكيف كان بناءُ بيته وبُيوتِ أزواجه؟. وقبل ذلك لا بدّ أنْ نعلم أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, كان يرغب هذه العِيشةَ الزهيدة, وليس كما يتوهَّمُه بعض الناس: بأنَّ هذه هي حياتهم في زمنهم, فكان يعيش كبقيَّةِ الناس في زمنه, فقد ثبت أنَّ الله تعالى خيَّره, بين أنْ يَجْعَله مَلِكًا نَبِيًّا، وبين أنْ يَجْعَله عَبْدًا رَسُولًا ؟ فقَالَ: بَلْ عَبْدًا رَسُولًا “. ودَخَلَ مرَّةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيته, فرأى فراشه القديمَ قد تغيَّر, فَقَالَ: “مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟” فقَالَتْ يَا رَسُولَ اللهِ, دَخَلَتْ عَلَيَّ امرأةٌ، فَرَأَتْ فِرَاشَكَ فَذَهَبَتْ فَبَعَثَتْ إِلَيَّ بِهَذَا, فقَالَ رُدِّيهِ يَا عَائِشَةُ، فَوَاللهِ لَوْ شِئْتُ لَأَجْرَى اللهُ مَعِيَ جِبَالَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ. رواه الإمام أحمد, وصححه الألباني وحينما غنم الغنائم الكبيرة في غزوة حنين, أقبل إليه النَّاسُ وتَعَلَّقَوا به يَقُولُونَ: اقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا بَيْنَنَا، حَتَّى أَلْجَئُوهُ إِلَى شجرةٍ فَخَطَفَتْ رِدَاءَهُ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَاللَّهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ بِعَدَدِ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمٌ, لَقَسَمْتُهُ بَيْنَكُمْ، ثُمَّ لَا تجدوني بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذُوبًا» ثم قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، لَيْسَ لِي مِنْ هَذَا الْفَيْءِ وَلَا هَذِهِ إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ. رواه البخاريُّ وغيرُه كلُّ هذه الغنائمِ الضخمة: أنفقها على الناس جميعا, بل وأنفق الخُمُسَ الذي هو حقٌّ له. فتعالوا بنا – يا أمة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنتجوَّل في بيته ومسكنه المتواضع, الذي لا يسكنه أفقر الناس عندنا, بل لو رأينا وسمعنا أحداً يسكن مثله, لحلَّت الصدقةُ والزكاة عليه. كان بيتُه مبنيًّا من طين, وسقفُه جذوعُ النخل, طوله أربعة أمتار تقريباً, وعرضه كذلك, وبجانب البيت: فناءٌ مسَوَّرٌ بسَعَفِ النخيل, طوله ثلاثةُ أمتار, وعرضه أربعة أمتار فقط, وهذا الفناءُ الصغير له بابان, الباب الأول يَخْرُجُ منه إلى المسجد, والباب الآخر: يَخْرُجُ منه إلى الشارع. وأما ارتفاعه فهو قصيرٌ جدّا, حتى إنَّ الواقف يستطيع أنْ يلمسه بيده, يقول الْحَسَنُ البصريُّ رحمه الله: “كُنْتُ أَدْخُلُ بُيُوتَ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، فَأَتَنَاوَلُ سُقُفَهَا بِيَدِي”. كان بيتُه صغيراً مُتواضعاً, تقولُ عَائِشَة رضي الله عنها: «كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وَرِجْلاَيَ فِي قِبْلَتِهِ, فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ بَسَطْتُهُمَا». متفق عليه هذا البيت الصغير, لا يُوجد فيه الأرففُ الْمُمتلئة بالزخارف, ولا الفرشُ الْمُنَعَّمة, ولا الأطعمةُ الْمُنوَّعة, ولا الْمُكيفاتُ ووسائلُ الراحة. دَخَلَ عمرُ رضي الله عنه عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ, فَنَظَرَ إلى خِزَانَةِ بيته, فلم يجد فيها سوى صَّاعاً مِنْ شَعِيرٍ, وجِلداً لم يتمّ دباغه, فَفاضتْ عَيْنَاه وبكى, فقَالَ « مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ». قُال يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَمَا لِي لاَ أَبْكِي, وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ, وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لاَ أَرَى فِيهَا إِلاَّ مَا أَرَى, وَذَاكَ قَيْصَرُ وَكِسْرَى فِي الثِّمَارِ وَالأَنْهَارِ, وَأَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم, وَصَفْوَتُهُ وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ؟. فَقَالَ «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ, أَلاَ تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الآخِرَةُ, وَلَهُمُ الدُّنْيَا». رواه مسلم لم يُوجَدْ في بيته صلى الله عليه وسلم: مكانٌ للطبخ، وكان يمر شهران كاملان لا يوقد في بيته نارٌ قط, وكان يعيش هو وزوجاتُه رضي الله عنهن, الشهرَ والشهرين على الماءِ والتمرِ فقط. فقد ذكرتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أنه يمرُّ بِهِمْ شَهْرَان كاملان، ولم تُوقَدْ فِي بيتهمْ نَارٌ»، فَقيل لها: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: ” الأَسْوَدَانِ: التَّمْرُ وَالْمَاءُ”. متفق عليه ونحن لو عصَرنا ذاكرتَنا, لِنَتَذكَّر هل مرَّ علينا يومان فقط, ولم نُوقِدْ ناراً لطعامٍ أو شراب, لما اسْتطعنا ذلك. وهذا التمرُ الذي هو طعامه الوحيدُ في بعض الأشهر, لا يجِدُه في كلِّ أوقاته، بل كان يمضي عليه اليومُ واليومان, وهو لا يجد من الدَّقَلِ ما يملأ به بطنه, والدَّقَل: هو الرديء من التمر. يقول عُمَر رضي الله عنه: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَلْتَوِي مَا يَجِدُ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ مِنَ الدَّقَلِ. ولم يَر رسـولُ الله صلى الله عليه وسلم الخبزَ الأبيضَ النقيَّ قط، يقول سَهْلُ بْن سَعْدٍ رضي الله عنه: مَا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبز النَّقِيَّ، مِنْ حِينَ ابْتَعَثَهُ اللَّهُ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ. رواه البخاري ولم يكن مُتوفِّراً عنده إلا خبزُ الشعير, ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم, لم يشبع منه يومين متتالين حتى لقي الله عز وجل!!. قالت عائشةُ رضي الله عنها: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ». رواه مسلم بل كانت تَمُرُّ الأيامُ على بيوت النبيِّ صلى الله عليه وسلم, ولا يَجِدون ما يأكلونه, لا تمراً ولا شعيراً سوى الماء. جاء رَجُلٌ ذات مرَّةٍ إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَصَابَنِي الجَهْدُ، فَأَرْسَلَ إِلَى نِسَائِهِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُنَّ شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلاَ رَجُلٌ يُضَيِّفُهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ يَرْحَمُهُ اللَّهُ؟» فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَانْطَلَقَ بِهِ وأطعمه. رواه البخاري الله أكبر!! رسـول رب العالمين، الذي هو أحبُّ الناس إليه, وأكرم الخلق لديه: لا يوجد في بيته ولا في بيوت أزواجه جميعاً: خُبْزَةٌ واحدةٌ من شعير, أو قليلٌ من تمرٍ يقدمه لضيفه!!. مَرَّ أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْمٍ, وبَيْنَ أَيْدِيهِمْ شَاةٌ مشويَّة، فَدَعَوْهُ لأكل الطعام، فتذكر ما كان عليه نبيُّه وحبيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, من الجوع وقلَّة الطعام, فَتأثَّر حينها, وأَبَى أَنْ يَأْكُلَ وَقَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدُّنْيَا, وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ». رواه البخاري أما عن فراشه ومنامه, فكان لا ينام على الفرش اللينة, بل إنه ينام على فراشٍ يتأثر منها جنبُه, دَخَلَ عَلَيْه عُمَرُ رضي الله عنه ذات يوم، وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِهِ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَوِ اتَّخَذْتَ فِرَاشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا، إِلا كَرَاكِبٍ سَارَ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، فَاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا». رواه الأمام أحمد , وصححه الألباني أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}. اللهم زهِّدنا بالحياة الفانية, واجعل هِمَّتنا الحياة الدائمة, إنك جوادٌ كريم. الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الْمُصطفى الأمين, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد: أيها المسلمون: وقُبَيْل وفاته صلى الله عليه وسلم, لم يكن بحوزته درعُه الذي كان يلبسه, والذي كان يحمله في جهاده وقتاله ومعاركه الحربية؛ لأنه قد رهنه صلى الله عليه وسلم عند يهوديٍّ, قال ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: “قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ دِرْعَهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ, عَلَى ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَخَذَهَا رِزْقًا لِعِيَالِهِ “. أيْ أنه لم يجد شيئاً يُطعمُه أهلَه وعيالَه, فما كان منه إلا أن اقترض من يهودي, ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, ليسدّ بها جوعهم. اسْمعوا يا من تشتكون قلَّة الأموال, والحاجة وضيقَ الحال, اسْمعوا من تنظرون إلى الأغنياء فتغبطوهم, وتنظرون إلى الفقراء فتزدروهم: إمامكم ونبيُّكم هذه حاله, وهذا طعامه وشرابه, وهذا بيتُه وأثاثه, حتى اضْطرّ آخر حياته, أنْ يطلب من يهوديٍّ طعاماً من شعير, ليسدّ به رمق عيالِه, وهو الذي لو سأل الله كنوز الدنيا لأعطاه, لكنه قَنِعَ وزَهِدَ بدنياه؛ لأنَّ الآخرةَ كانت هَمَّه ومُبْتَغَاه. مِن هذا البيت الصغيرِ حجمه, والضيِّقةِ مساحته, انطلقت الرسالة, وشعَّ الإيمان, من هذا البيت نقل أزواجُه لنا حياتَه, وتعلَّمنا سنَّته داخل بيته, من هذا البيتِ انطلقت رايات الجهاد, حتى وصلت إلى العراق وفارس, ومصرَ والأندلس. فلْنتق الله يا أمة الإسلام, ولْنقم بواجبنا تجاه نعم الله علينا, فها نحن نأكل من أشهى الأطعمة, وننام على أحسن وألين الفُرُش, ونسكن أوسع البيوت. فالأولى بنا أنْ نشتغل بشكر هذه النعم العظيمة, لا أنْ نشتغل بالتَّسخُّط والتذمُّر, من كثرة الديون وغلاء الأسعار, وننظُرَ إلى مَن فوقنا, ونَغْبِطَهُمْ ونتمنَّى أنْ نكون مثلهم. فوالله لو كانت الدنيا كريمةً على الله تعالى: لأعطاه أكرمَ الخلق عليه, ولكنها لا تسوى عنده جناح بعوضة. منقول |
الساعة الآن 06:25 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2025, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir